الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ألا ترى إلى ذي الرمة كيف أنث الزورق على تأويل السفينة حيث كان المخصوص مؤنثًا في قوله:
قيل: ويجوز أن تكون {سَاءتْ} بمعنى أحزنت فهي فعل متصرف متعد وفاعله ضمير جهنم ومفهوله محذوف أي أحزونت أهلها وأصحابها و{مُسْتَقِرًّا} تمييز أو حال وهو مصدر بمعنى الفاعل أو اسم مكان وليس بذاك.والظاهر أن {مُسْتَقِرًّا} ومقامًا كقوله: وحسنه كون المقام يستدعي التطويل أو كونه فاصلة.وقيل: المستقر للعصاة والمقام للكفرة وإن في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر.وقرأت فرقة {وَمُقَامًا} بفتح الميم أي مكان قيام.{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ}.أي لم يتجاوزوا حد الكرم {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} أي ولم يضيقوا تضييق الشحيح، وقال أبو عبد الرحمن الحبلى: الإسراف هو الإنفاق في المعاصي والقتر الإمسام عن طاعة، وروي نحو ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك.وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم {يَقْتُرُواْ} بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر بضم لياء وكسر التاء وقرأ العلاء ابن سبابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق.وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا وقال: إنما يقال أقتر إذا افتقر ومنه {وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره من أقتر بمعنى ضيق {وَكَانَ} انفاقهم {بَيْنَ ذلك} المذكور من الاسراف والقتر {قَوَامًا} وسطار وعدلًا سمى به لاستقامة الطرفين وتعادلهما كأن كلا منهما يقاوم الآخر كما سمي سواء لاستوائهما.وقرأ حسان {قَوَامًا} بكسر القاف، فقيل: هما لغتان بمعنى واحد وقيل: هو بالكسر ما يقام به الشيء، والمراد به هنا ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.وهو خبر ثان لكان مؤكد للأول وهو {بَيْنَ ذلك} أو هو الخبر و{بَيْنَ ذلك} إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وإما حال من {قَوَامًا} لأنه لو تأخر لكان صفة، وجوز أن يكون ظرفًا لغوًا متعلقًا به أو {بَيْنَ ذلك} هو الخبر و{قَوَامًا} حال مؤكدة، وأجاز الفراء أن يكون {بين ذلك} اسم كان وبنى لاضافته إلى مبني كقوله تعالى: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] في قراءة من فتح الميم. ومنه قول الشاعر: وتعقبه الزمخشري بأنه من جهة الإعراب لا بأس له ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.وحاصله أن الكلام عليه من باب كان الذاهب جاريته صاحبها وهو غير مفيد.ولا يخفى أنه غير وارد على قراءة {قوامًا} بالكسر على القول الثاني فيه وعلى غير ذلك متجه.وما قيل من أنه من باب شعري شعري والمعنى كان قوامًا معتبرًا مقبولًا غير مقبول لأنه مع بعده إنما ورد فيما اتحد لفظه وما نحن فيه ليس كذلك.وكذا ما قيل: إن {بين ذلك} أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه إليه على السواء فإن ما بين الاقتار والإسراف لا يلزم أن يكون قوامًا بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل وفق الاقتار بقليل فإنه تكلف أيضًا إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه الكوسط من غير فرق ومثله لا يستعمل في المخاطبات لا لغازه، وقيل: لأنه بعد تسليم جواز الأخلار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفي عن الإسلام.وفيه أنه لا شك في جواز الأخبار عن الأعم بالأخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يذل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل.ولعل الأخبار عن إنفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى: {إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} المستلزم لكون إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الاْمور فقد شاع خير الأمور أوساطه، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير، وقد أخرج أحمد. والطبراني. عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من فقه الرجل رفقه في معيشته».وأخرج ابن ماجه في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» وحكى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر: الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية.وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديمًا وحديثًا، ومن ذلك قوله: وقول حاتم: وقول الآخر: إلى غير ذلك. اهـ. .قال ابن عاشور: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}.عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي {عباد الرحمن} إلخ، فهو مبتدأ وخبره {الذين يمشون على الأرض هونًا}. إلخ.وقيل: الخبر {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75].والجملةُ المعطوف عليها جملة {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة} [الفرقان: 62]. إلخ.فبمناسبة ذكر من أراد أن يذَّكَّر تُخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها.وهذا من أبدع التخلص إذْ كان مفاجئًا للسامع مطمِعًا أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يُفاجئه ما يؤذن بالختام وهو {قل ما يَعْؤا بكم ربّي} [الفرقان: 77] الآية.والمراد ب {عباد الرحمن} بادىء ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.وإذ قد أُجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاءِ وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عبادَه، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسمَ الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: {اسجُدوا للرحمان قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60].فإذا جعل المراد من {عباد الرحمن} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبرُ في قوله: {الذين يمشون على الأرض هونًا}. إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي {أولئك يُجْزَوْن الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75] استئنافًا لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.وإذا كان المراد من {عباد الرحمن} جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتًا ل {عباد الرحمن} وكان الخبر اسمَ الإشارة في قوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75]. إلخ.وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمان وزادهم نفورًا هم على الضد من تلك المحامد، تعريضًا تشعر به إضافةُ {عباد} إلى {الرحمن}.واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على {عباد الرحمن} جاءت على أربعة أقسام:قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدىء بها من قوله تعالى: {الذين يمشون على الأرض هونًا} إلى قوله: {سلامًا} [الفرقان: 75].وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله: {والذين لا يَدْعُون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68].وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله: {والذين يَبِيتُون لربهم سُجَّدًا وقيامًا} [الفرقان: 64]، وقوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} [الفرقان: 67] الآية، وقوله: {ولا يقتلون النفس} إلى قوله: {لا يشهدون الزور} [الفرقان: 68 72]. إلخ.وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا} إلى قوله: {للمتقين إمامًا} [الفرقان: 74].وظاهر قوله: {يمشون على الأرض هونًا} أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل وهو الذي حمل عليه جمهورُ المفسرين.وجوز الزجاج أن يكون قوله: {يمشون} عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي.فعلى الوجه الأول يكون تقييدُ المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهَوْن ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختيارًا وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.والهَوْن: اللين والرفق.ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره مَشْيًا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.والمشي الهَوْن: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفقُ النعال فهو مخالف لمشْي المتجبرين المعجَبين بنفوسهم وقوتهم.وهذا الهَوْن ناشيء عن التواضع لله تعالى والتخلُّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية.وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلامًا يتبختر في مِشيته فقال له «إن البخترة مِشية تُكْره إلا في سبيل الله».وقد مدح الله تعالى أقوامًا بقوله سبحانه: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} فاقْصِدْ في مِشيتِك، وحكى الله تعالى عن لقمان قولَه لابنه {ولا تَمْششِ في الأرض مرَحًا} [الإسراء: 37].والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة، فالهوْن يناسب ماهيتَها وفيه سلامة من صدم المارين.وعن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الذين يمشون على الأرض هونًا} فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى {يمشون على الأرض} أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى: {وإذا تولّى سعى في الأرض لِيُفْسِد فيها} [البقرة: 205] وأن الهوْن مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوْنًا بوصف آخر يناسب التواضع وكراهيةَ التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.وانتصب {سلامًا} على المفعولية المطلقة.
|